فصل: تفسير الآيات (24- 52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (24- 52):

{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)}
{اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} عصى وعلا وتكبّر وكفر، فادعه إلى عبادتي، واعلم بأنّي قد ربطت على قلبه، قال: فكيف تأمرني أن آتيه وقد ربطتَ على قلبه؟ فأتاه ملك من خزّان الريح فقال: انطلق، فإنّا اثنا عشر من خزّان الريح منذ خلقنا الله سبحانه نحن في هذا فما علمناه، فامض لأمر الله، فقال موسى عند ذلك {قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} وسّع وليّن قلبي بالإيمان والنبوّة {وَيَسِّرْ لي أَمْرِي} وسهّل عليّ ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون {واحلل} وابسُط وافتح {عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي}.
قال ابن عباس: كانت في لسانه رُتّة، وذلك أنّه كان في حجر فرعون ذات يوم فلطمه لطمة وأخذ بلحيته فقال فرعون لآسية امرأته: انَّ هذا عدوّي، فقالت آسية: على رسلك إنّه صبي لا يفرّق بين الأشياء ولا يميّز، ثم جاءت بطستين فجعلت في أحدهما الجمر وفي الأُخرى الجوهر ووضعتهما بين يدي موسى، فأخذ جبرئيل بيد موسى فوضعها على النار حتى رفع جمرة ووضعها على لسانه فتلك الرُتّة {يَفْقَهُواْ قَوْلِي} كي يفهموا كلامي {واجعل لِّي وَزِيراً} معيناً وظهيراً {مِّنْ أَهْلِي} ثمَّ بين من هو فقال: {هَارُونَ أَخِي * اشدد بِهِ أَزْرِي} قوِّ به ظهري {وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي} يعني النبوّة وتبليغ الرسالة {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً} نصلّي لك {وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً}.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن عامر: اشدد به أزري بفتح الألف وأُشركه بضم الألف على الجزاء والجواب حكاية عن موسى أنّي أفعل ذلك، قال الله سبحانه {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} قد أُعطيت مرادك وسؤالك يا موسى.
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى} قبل هذا وهي {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ} وحي إلهام مثل وحي النحل {مَا يوحى * أَنِ اقذفيه} أن اجعليه {فِي التابوت}.
قال مقاتل: والمؤمن الذي صنع التابوت من آل فرعون اسمه خربيل، وقيل: إنّه كان من بردي {فاقذفيه فِي اليم} يعني نهر النيل {فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} يعني شاطئ النهر، لفظه أمر ومعناه خبر مجازه: حتى يلقيه اليمّ بالساحل {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} يعني فرعون، فاتّخذت تابوتاً وجعلت فيه قطناً محلوجاً، ووضعت فيه موسى، وقيّرت رأسه وَخصَاصه يعني شقوقه ثمّ ألقته في النّيل، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون، فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية إذا بتابوت يجيء به الماء، فلمّا رأى ذلك أمر الغلمان والجواري بإخراجه فأخرجوه وفتحوا رأسه فإذا صبيّ من أصبح الناس وجهاً، فلمّا رآه فرعون أحبّه بحيث لم يتمالك، فذلك قوله سبحانه {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} قال ابن عباس: أحبّه وحبّبه إلى خلقه، قال عطيّة العوفي: جعل عليه مُسحة من جمال لا تكاد يصبر عنه مَن رآه، قال قتادة: ملاحة كانت في عيني موسى، ما رآه أحد إلاّ عشقه.
{وَلِتُصْنَعَ على عيني} أي ولتربّى وتغذّى بمرأىً ومنظر منّي {إِذْ تمشي أُخْتُكَ} واسمها مريم متعرّفة خبره {فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ} يرضعه ويضمّه إليه، وذلك أنّه كان لا يقبل ثدي امرأة، فلمّا قالت لهم أُخته ذلك قالوا: نعم، فجاءت بالأُمّ فقبل ثديها فذلك قوله: {فَرَجَعْنَاكَ} فرددناك {إلى أُمِّكَ}. وفي مصحف أُبي فرددناك إلى أُمّك {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها} بلقائك وبقائك {وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً} قال ابن عباس: قتل قبطياً كافراً.
قال كعب الأحبار: كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم} أي من غّم القتل وكربته {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً}. قال ابن عباس: اختبرناك اختباراً. وقال الضحّاك وقتادة ومقاتل، ابتليناك ابتلاءً. وقال مجاهد: أخلصناك إخلاصاً {فَلَبِثْتَ سِنِينَ} يعني عشر سنين {في أَهْلِ مَدْيَنَ} وهي بلدة شعيب على ثلاث مراحل من مصر، قال وهب: لبث عند شعيب ثمان وعشرين سنة، عشر سنين منها مهر امرأته صفيرا بنت شعيب وثماني عشرة سنة أقام عنده حتى وُلد لَه.
{ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى}. قال مقاتل: على موعد، قال محمد بن كعب: ثم جئت على القدر الذي قدّرت أنك تجيء.
قال عبد الرَّحْمن بن كيسان: على رأس أربعين سنة وهو القدر الذي يوحي فيه إلى الأنبياء، قال الكلبي: وافق الكلام عند الشجرة.
{واصطنعتك لِنَفْسِي} اخترتك واصطفيتك واختصصتك بالرسالة أو النبوّة {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} اليد والعصا {وَلاَ تَنِيَا} قال ابن عباس: لا تضعفا، وقال السُدّي: لا تفترا، وقال محمد بن كعب: لا تقصّرا.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لا تبطئا، وقي قراءة ابن مسعود: ولا تهنا.
{اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} قال ابن عباس: لا تعنّفا في قولكما ولا تغلّظا، وقال السدّي وعكرمة: كنّياه قولا له: يا أبا العباس، وقيل: يا أبا الوليد.
وقال مقاتل: يعني بالقول اللين هل لك إلى أن تزكّى وأهديك إلى ربّك فتخشى.
وقال أهل المعاني: معناه الطُفا له في قولكما فإنّه ربّاك وأحسن تربيتك وله عليك حقّ الأُبوّة فلا تجبهه بمكروه في أوّل قدومك عليه، يقال: وعده على قبول الإيمان شباباً لا يهرم وملكاً لا يُنزع عنه إلاّ بالموت، ويبقى عليه لذّة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته.
قال المفسّرون: وكان هارون يومئذ بمصر فأمر الله عزّ وجلّ أن يأتي هو وهارون، وأوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى فتلقّاه إلى مرحلة وأخبره بما أُوحي إليه فقال له موسى: إن الله سبحانه أمرني أن آتي فرعون فسألت ربّي عزّ وجلّ أن يجعلك معي.
وقوله: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} أي يسلم.
فإن قيل: كيف قال: لعله يتذكر أو يخشى وعلمه سابق في فرعون أنّه لا يتذكّر ولا يخشى؟.
قال الحسين بن الفضل: هو مصروف إلى غير فرعون، ومجازه: لكي يتذكّر متذكّر أو يخشى خاش إذا رأى برّي وإلطافي بمن خلقته ورزقته، وصححت جسمه وأنعمت عليه ثم ادّعى الربوبية دوني.
وقال أبو بكر محمد بن عمر الورّاق: لعلّ ها هنا من الله واجب، ولقد تذّكر فرعون حيث لم تنفعه الذكرى والخشية، وذلك قوله حين الجمَهُ الغرقُ في البحر {آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} [يونس: 90].
سمعت أبا القاسم الحسنن بن محمد بن حبيب يقول: سمعت أبي يقول سمعت علىّ بن محمد الوراق يقول: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول وقرأ هذه الآية: هذا رفقك بمن يقول: أنا الإله، فكيف رفقك بمن يقول: أنت الإله؟
قال أبو القاسم الحسين فبنيت عليه ألفاظاً اقتديت به فيها فقلت: هذا رفقك بمن ينافيك فكيف رفقك بمن يصافيك؟
هذا رفقك بمن يعاديك فكيف رفقك بمن يواليك؟
هذا رفقك بمن يسبّك فكيف رفقك بمن يحبّك؟
هذا رفقك بمن يقول لك نِدّاً فكيف رفقك بمن يقول فرداً؟
هذا رفقك بمن ضلّ فكيف رفقك بمن ذل هذا رفقك بمن اقترف فكيف رفقك بمن اعترف؟
هذا رفقك بمن أصرَّ فكيف رفقك بمن أقرَّ؟
هذا رفقك بمن استكبر فكيف رفقك بمن استغفر؟
{قَالاَ} يعني موسى وهارون {رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ}. قال ابن عباس: يعجّل بالقتل والعقوبة، وقال الضحّاك: تجاوز الحدّ، وقيل: يغلبنا {أَوْ أَن يطغى} يتكبرّ ويستعصي علينا.
{قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ} بالدفع عنكما {أَسْمَعُ} قولكما وقوله: {وأرى} فعله وفعلكما {فَأْتِيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ} أي ولا تتعبهم في العمل، وكانت بنو إسرائيل عند آل فرعون في عذاب شديد يقتل ابناءهم ويستخدم نساءهم ويكلفهم من العمل واللبن والطين وبناء المدائن ما لا يقدرون عليه.
قال موسى {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ} قال فرعون: وما هي؟ قال: فأدخل يده في جيب قميصه ثمَّ أخرجها فإذا هي بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس، غلبت نور الشمس، فعجب منها ولم يُره العصا إلاّ بعد ذلك يوم الزينة.
{والسلام على مَنِ اتبع الهدى} يعني من أسلم {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ} أنبياء الله {وتولى} أعرض عن الإيمان، ورأيت في بعض التفاسير أنَّ هذه أرجى آية للموحّدين في القرآن.
{قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} يعني يا موسى وهارون فذكر موسى دون هارون لرؤوس الآي.
{قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ} قال الحسين وقتادة: أعطى كلّ شئ صلاحه وهداه لما يصلحه.
وقال مجاهد: لم يجعل الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان، ولكن خلق كلّ شي فقدّره تقديراً.
وقال عطيّة: أعطى كلّ شئ خلقه يعني صورته.
وقال الضحّاك: أعطى كلّ شيء خلقه، يعني اليد للبطش والرجل للمشي واللسان للنطق والعين للبصر والأُذن للسمع.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا عبد الرَّحْمن بن محمد الزهري قال: حدَّثنا أحمد ابن سعيد قال: حدَّثنا سعيد بن سليمان عن إسماعيل بن زكريا عن إسماعيل بن أبي صالح، أعطى كل شي خلقه {ثُمَّ هدى} قال: هداه لمعيشته.
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ} يعني شكله، للإنسان الزوجة وللبعير الناقة وللفرس الرمكة وللحمار الأتان ثمَّ هدى أي عرَّف وعلّم وألهم كيف يأتي الذكر الأُنثى في النكاح. وقرأ نصير خلَقه بفتح اللام على الفعل.
{قَالَ} فرعون {فَمَا بَالُ القرون الأولى} وإنَما قال هذا فرعون لموسى حين قال موسى: {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الأحزاب * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ} [غافر: 30-31]، فقال فرعون حينئذ له: فما بال القرون الاولى التي ذكرت؟ فقال موسى {عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} يعني اللوح المحفوظ، وإنّما ردّ موسى علم ذلك إلى الله سبحانه لأنّه لم يعلم ذلك، وإنَما نزلت التوراة عليه بعد هلاك فرعون وقومه {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي} أي لا يخطئ {وَلاَ يَنسَى} فيتذكّر، وقال مجاهد: هما شيء واحد.
{الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} قرأه أهل الكوفة بغير ألف أي فرشاً، وقرأ الباقون مهاداً أي فراشاً واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَاداً} [النبأ: 6] ولم يختلفوا فيه أنّه بالألف.
{وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} أي أدخل وبيّن وطرّق لكم فيها طرقاً. {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً} أصنافاً {مِّن نَّبَاتٍ شتى} مختلف الألوان والطعوم والمنافع من بين أبيض وأحمر وأخضر وأصفر، ووهب كلّ صنف زوجاً، ومنها للدوابّ ومنها للناس ثمَّ قال: {كُلُواْ وارعوا} أي ارتعوا {أَنْعَامَكُمْ} يقول العرب: رعيتُ الغنم فرَعَتْ لازم ومتعدّ.
{إِنَّ فِي ذلك} الذي ذكرت {لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى} أي لذوي العقول، واحدها نُهية، سُمّيت بذلك لأنّها تنهى صاحبها عن القبائح والفضائح وارتكاب المحظورات والمحرّمات.
وقال الضحّاك: {لأُوْلِي النهى} يعني الذين ينتهون عمّا حُرَّم عليهم.
وقال قتادة: لذوي الورع، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لذوي التقى.

.تفسير الآيات (53- 76):

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)}
{مِنْهَا} أي من الأرض {خَلَقْنَاكُمْ} يعني أباكم آدم. وقال عطاء الخراساني: إن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذرّهُ على النطفة، فيخلق من التراب، ومن النطفة فذلك قوله سبحانه {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ}.
{وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} أي عند الموت والدفن، قال عليّ: «إن المؤمن إذا قبض الملك روحه انتهى به إلى السماء، وقال: يا ربِّ عبدك فلان قبضنا نفسه فيقول: ارجعوا فإنّي وعدتهُ: منها خلقناكم وفيها نعيدكم فإنّه يسمع خفق نعالهم إذا ولّوا مدبرين».
{وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} مرَّة أُخرى بعد الموت عند البعث.
{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ} يعني فرعون {آيَاتِنَا كُلَّهَا} يعني اليد والعصا والآيات التسع {فَكَذَّبَ} بها وزعم أنّها سحر {وأبى} أن يُسلم {قَالَ} فرعون {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا} يعني مصر {بِسِحْرِكَ ياموسى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً} فاضرب بيننا وبينك أجلاً وميقاتاً {لاَّ نُخْلِفُهُ} لا نجاوزه {نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى} مستوياً. قرأ الحسن وعاصم والأعمش وحمزة سُوى بضم السين، الباقون: بكسر وهما لغتان مثل عُدي وعِدَي، وطُوى وطِوى.
قال قتادة ومقاتل: مكاناً عدلاً بيننا وبينك، وقال ابن عباس: صفاً، وقال الكلبي: يعني سوى هذا المكان، وقال أبو عبيد والقيسي: وسطاً بين الفريقين، وقال موسى بن جابر الحنفي:
وإن أبانا كان حلّ ببلدة ** سوىً بين قيس قيس عيلان والفزر

الفزر: سعد بن زيد مناة.
{قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} قال ابن عباس وسعيد بن جبير: يعني يوم عاشوراء.
وقال مقاتل والكلبي: يوم عيد لهم في كل سنة يتزيّنون ويجتمعون فيه.
وروى جعفر عن سعيد قال: يوم سوق لهم، وقيل: هو يوم النيروز.
وقرأ الحسن وهبيرة عن حفص يومَ الزينة بنصب الميم أي في يوم، وقرأ الباقون بالرفع على الابتداء والخبر.
{وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} وقت الضحوة، يجتمعون نهاراً جهاراً ليكون أبلغ في الحجة وأبعد من الريبة. {فتولى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ} حِيَلِه وَسَحَرَتَه {ثُمَّ أتى} الميعاد.
قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعون ساحراً مع كل واحد منهم حبل وعصا، وقيل: كانوا أربعمائة.
{قَالَ} موسى للسحرة {لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم} قرأ أهل: الكوفة فيسُحِتكم بضم الياء وكسر الحاء، وقرأ الباقون بفتح الياء والحاء، وهما لغتان: سحتَ وأسحت.
قال مقاتل والكلبي: فيهلككم، وقال قتادة: فيستأصلكم، وقال أبو صالح: يذبحكم، قال الفرزدق:
وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع ** من المال إلاّ مسحت أو مجلف

{فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ النجوى} أي المناجاة تكون اسماً ومصدراً. {قالوا إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ} قرأ عبد الله: واسرّوا النجوى إن هذان ساحران بفتح الألف وجزم نونه ساحران بغير لام، وقرأ ابن كثير وحفص إن بكسر الالف وجزم النون هذان بالألف على معنى ما هذان إلاّ ساحران، نظيره: قوله: {وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين} [الشعراء: 186] قال الشاعر:
ثكلتك أُمكّ إن قتلتَ لمُسلماً ** حلّت عليك عقوبة الرَّحْمن

يعني ما قتلت إلاّ مسلماً، يدل على صحة هذه القراءة قراءة أُبي بن كعب: إن ذان إلاّ ساحران، وقرأ عيسى بن عمر الثقفي وأبو عمر بن علاء: إن هذين لساحران بالياء على الأصل، قال أبو عمرو: واني لإستحي من الله أن أقرأ إنّ هذان، وقرأ الباقون: إنّ بالتشديد هذان بالألف واختلفوا فيه، فقال قوم بما أخبرنا أبو بكربن عبدوس وعبد الله بن حامد قالا: حدَّثنا أبو العباس الأصم قال: حدَّثنا محمد بن الجهم السمري قال: حدَّثنا الفرّاء قال: حدَّثني أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها سئلت عن قوله سبحانه في النساء {لكن الراسخون} [النساء: 162] {والمقيمين} [النساء: 162] وعن قوله في المائدة {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون} [المائدة: 69] وعن قوله: {إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] فقالت: يا بن أخي هذا خطأ من الكاتب.
وقال عثمان بن عفان: إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتهم.
وقال أبان: قرئت هذه الآية عند عثمان فقال: لحن وخطأ، فقيل له: ألم تغيّره فقال: دَعُوه فإنّه لا يُحلّ حراماً ولا يحرّم حلالاً، وقال آخرون: هذه لغة الحارث بن كعب وخثعم وزبيد وكنانة يجعلون الأسين في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف.
قال الفرّاء: أنشدني رجل من بني الأسد وما رأيت افصح منه.
وأطرق إطراق الشجاع ولو ترى ** مساغاً لناباه الشجاع لصمما

ويقولون: كسرت يداه، وركبت علاه، بمعنى يديه وعليه. وقال الشاعر:
تزوّد منّا بين أُذناه ضربة ** دعته إلى هابي التراب عقيم

أراد بين أُذنيه. وقال آخر:
أي قلوص راكب نراها ** طاروا علاهنّ فطر علاها

أي عليهن وعليها. وقال آخر:
إنَّ أباها وأبا أباها ** قد بلغا في المجد غايتاها

وروي أنّ أعرابياً سأل ابن الزبير شيئا فحرّمه فقال: لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال ابن الزبير: إن وصاحبها، يعني نعم. وقال الشاعر:
بكرتْ عليّ عواذلي يلحينني وألو مهنَّه

ويقلن شيبٌ قد علاك وقد كبرت فقلت إنّه أي نعم، وقال الفراّء: وفيه وجه آخر: وهو أن يقول: وجدت الألف دعامة من هذا على حالها لا تزول في كل حال، كما قالت العرب: الذي ثمَّ زادوا نوناً يدلّ على الجمع فقالوا: الذين في رفعهم ونصبهم وخفضهم وكناية تقول: اللَّذوُنَ.
{يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ} مصر {بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى} حدَّث الشعبي عن عليّ قال: يصرفا وجوه الناس إليهما وهي بالسريانية.
وقال ابن عباس: يعني بسراة قومكم وأشرافكم وقال مقاتل والكلبي: يعني الأمثل فالأمثل من ذوي الرأي والعقول.
وقال عكرمة: يعني يذهب أخياركم.
وقال قتادة: طريقتكم المُثلى يومئذ، بنو إسرائيل كانوا أكثر القوم عدداً يومئذ وأموالاً، فقال عدو الله: إنما يريدان أن يذهبا به لأنفسهما.
وقال الكسائي: بطريقتكم يعني بسنّتكم وهديكم وسمتكم، والمثلى نعت للطريقة، كقولك امرأة كبرى، تقول العرب: فلان على الطريقة المثلى يعني على الهدى المستقيم.
قال الشاعر:
فكم متفرقين منوا بجهل ** حدى بهم إلى زيغ فراغوا

وزِيغ بهم عن المثلى فتاهوا ** وأورطهم مع الوصل الرداغُ

فزلّت فيه أقدام فصارت ** إلى نار غلا منها الدماغ

والمثلى تأنيث الأمثل.
{فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ} قرأ أبو عمرو فاجمعوا بوصل الألف وفتح الميم، من الجمع يعني لا تدعوا شيئاً من كيدكم إلا جئتم به، وتصديقه قوله: فجمع كيده، وقرأ الباقون: فأجمعوا بقطع الألف وكسر الميم وله وجهان: أحدهما: بمعنى الجمع، يقول العرب: أجمعت الشيء وجمعته بمعنى واحد. قال أبو ذؤيب:
فكأنّه بالجزع جزع يتابع ** وأولاه ذي العرجاء تهب مجمّع

والثاني: بمعنى العزم والأحكام، يقول: أجمعت الأمر وأزمعته، وأجمعت على الأمر وأزمعت عليه إذا عزمت عليه. قال الشاعر:
ياليت شعري والمنى لا تنفع ** هل أغدونْ يوماً وأمري مجمع

أي محكم، وقد عزم عليه كيدكم ومكركم وسحركم وعلمكم.
{ثُمَّ ائتوا صَفّاً} قال مقاتل: والكلبي: جميعاً، وقيل: صفوفاً، وقال أبو عبيد: يعني المصلّى والمجتمع، وحُكي عن بعض العرب الفصحاء: ما استطعت أن آتي الصفّ أمس، يعني المصلّى.
{وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى} يعني فاز من غلب.
{قَالُواْ} يعني السحرة {ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ} عصاك من يدك {وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى} عصاه {قَالَ} موسى {بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} وهو جمع العصا {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} قرأ ابن عامر بالتاء، ردّه إلى الحبال والعصيّ، وقرأ الباقون: بالياء ردّوه إلى الكيد أو السحر، ومعناه شبّه إليه من سحرهم حتى ظنّ {أَنَّهَا تسعى} أي تمشي، وذلك أنّهم كانوا لطّخوا حبالهم وعصيّهم بالزئبق فلمّا أصابه حرّ الشمس ارتهشت واهتزت فظنّ موسى أنها تقصده {فَأَوْجَسَ} أي أحسَّ ووجد، وقيل: أضمر {فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} قال مقاتل: إنّما خاف موسى إذ صنع القوم مثل صنيعه ان يشكّو فيه فلا يتبعوه ويشك فيه من تابعه.
{قُلْنَا} لموسى {لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} الغالب {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} يعني العصا {تَلْقَفْ} تلتقم وتلتهم {مَا صنعوا إِنَّمَا صَنَعُواْ} يعني إنّ الذي صنعوا {كَيْدُ سَاحِرٍ} قرأ أهل الكوفة بكسر السين من غير ألف، وقرأ الباقون: ساحر بالألف على فاعل، واختاره أبو عبيد، قال: لأنَّ إضافة الكيد إلى الرجل أولى من إضافته إلى السّحر وإن كان ذلك لا يمتنع في العربية.
{وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى} من الأرض، وقيل: معناه حيث احتال.
{فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً قالوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى * قَالَ آمَنتُمْ لَهُ} يعني به كقوله: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26] {قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ} لرئيسكم ومعلّمكم {الذي عَلَّمَكُمُ السحر فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ} يعني الرجل اليسرى واليد اليمنى {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} يعني جذوع النخل، قال سويد بن أبي كاهل:
وهم صلبوا العبدي في جذع نخلة ** فلا عطست شيبان إلاّ بأجدعا

{وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً} أنا أو ربّ موسى {وأبقى * قَالُواْ} يعني السحرة {لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَآءَنَا مِنَ البينات} قال مقاتل: يعني اليد والعصا.
وأخبرنا البيهقي والاصفهاني قالا: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدَّثنا أبو الأزهر، قال: حدَّثنا روح قال: حدَّثنا هشام بن أبي عبد الله عن القاسم بن أبي برزة قال: جمع فرعون سبعين ألف ساحر، فألقوا سبعين ألف حبل وسبعين ألف عصا حتى جعل موسى يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، فأوحى الله سبحانه أن ألق عصاك، فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين فاغرفاه، فابتلع حبالهم وعصيّهم وأُلقي السحرة عند ذلك سجداً فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار ورأوا ثواب أهلها، عند ذلك قالوا {لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَآءَنَا مِنَ البينات} يعنى الجنة والنار وما رأوا من ثوابهم ودرجاتهم.
قال: وكانت امرأة فرعون تسأل: من غلب؟ فيقال: غلب موسى، فتقول: آمنت برب موسى وهارون، فأرسل إليها فرعون فقال: انظروا أعظم صخرة تجدونها فأتوها فإنْ هي رجعت عن قولها فهي امرأته، وإنْ هي مضت على قولها فألقوا عليها الصخرة، فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأريت بيتها في الجنة فمضت على قولها وانتزعت روحها، والقيت على جسد لا روح فيه.
{والذي فَطَرَنَا} يعني وعلى الذي خلقنا، وقيل: هو قسم {فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ} فاحكم ما أنت حاكم، واصنع ما أنت صانع من القطع والصلب {إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة الدنيآ} يقول: إنّما تملكنا في الدنيا ليس لك علينا سلطان إلاّ في الدنيا {إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} قال مقاتل: كانت السحرة اثنين وسبعين ساحراً، اثنان منهم من القبط وهما رأسا القوم، وسبعون منهم من بني إسرائيل، وكان فرعون أكره أُولئك السبعين الذين هم من بني إسرائيل على تعلّم السحر.
وقال عبد العزيز بن أبان: إنّ السحرة قالوا لفرعون: أرنا موسى إذا نام، فأراهم موسى نائماً وعصاه تحرسه فقالوا لفرعون: انَّ هذا ليس بسحر، إنّ الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى عليهم إلاّ أن تعملوا فذلك قوله: {وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} {والله خَيْرٌ وأبقى} منك لأنّك فان هالك {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ} في الآخرة {مُجْرِماً} مشركاً يعني بات على الشرك {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا} فيستريح {وَلاَ يحيى} حياةً تنفعه.
{وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً} مات على الإيمان {قَدْ عَمِلَ الصالحات فأولئك لَهُمُ الدرجات العلى} الرفيعة في الجنة {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وذلك جَزَآءُ مَن تزكى} أي صلح، وقيل: تطهّر من الكفر والمعاصي. وقال الكلبي: يعني أعطى زكاة نفسه وقال: لا إله إلاّ الله.